فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الحجة الرابعة: أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى.
الحجة الخامسة: وهي شريفة عالية، وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهارًا لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكنًا لكان مقهورًا لا قاهرًا ويجب أن يكون واحدًا، إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهرًا لكل ما سواه، فالإله لا يكون قهارًا إلا إذا كان واجبًا لذاته وكان واحدًا، وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئًا غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس.
فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة، وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية بقي فيها سؤالان:
السؤال الأول: لم سماها أربابًا وليست كذلك.
والجواب: لاعتقادهم فيها أنها كذلك، وأيضًا الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير: والمعنى أنها إن كانت أربابًا فهي خير أم الله الواحد القهار.
السؤال الثاني: هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال إنها خير أم الله الواحد القهار؟
الجواب: أنه خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار.
ثم قال: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} وفيه سؤال: وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا} وذلك يدل على وجود هذه المسميات.
ثم قال عقيب تلك الآية: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض.
الجواب: أن الذات موجودة حاصلة إلا أن المسمى بالإله غير حاصل وبيانه من وجهين: الأول: أن ذوات الأصنام وإن كانت موجودة إلا أنها غير موصوفة بصفات الإلهية، وإذا كان كذلك كان الشيء الذي هو مسمى بالإله في الحقيقة غير موجود ولا حاصل، الثاني: يروى أن عبدة الأوثان مشبهة فاعتقدوا أن الإله هو النور الأعظم وأن الملائكة أنوار صغيرة ووضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأثان ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار السماوية، وهذا قول المشبهة فإنهم تصوروا جسمًا كبيرًا مستقرًا على العرش ويعبدونه وهذا المتخيل غير موجود ألبتة فصح أنهم لا يعبدون إلا مجرد الأسماء.
واعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا نحن لا نقول: إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن الله أمرنا بذلك، فأجاب الله تعالى عنه، فقال أما تسميتها بالآلهة فما أمر الله تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهانًا ولا دليلًا ولا سلطانًا، وليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له، ثم إنه أمر أن ألا تعبدوا إلا أياه، وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية، ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء، قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لابد له من سبب فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة، إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس، ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة، فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب، ثم إنه تعالى إذا وفق إنسانًا حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم، فذلك الشخص يكون في غاية الندرة، فلهذا قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ذلك الدين القيم}
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ذلك الدين المستقيم، قاله السدي. الثاني: الحساب البيّن، قاله مقاتل بن حيان.
الثالث: يعني القضاء الحق، قاله ابن عباس. اهـ.

.قال ابن عطية:

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
وصفه لهما ب: {صاحبي السجن} هو: إما على أن نسبهما بصحبتهما للسجن من حيث سكناه- كما قال: {أصحاب الجنة} [الأعراف: 44، الحشر: 20]، و: {أصحاب الجحيم} [البقرة: 119] ونحو هذا- وإما أن يريد صحبتهما له في السجن، فأضافهما إلى السجن بذلك، كأنه قال: يا صاحبيَّ في السجن، وهذا كما قيل في الكفار إن الأصنام شركاؤهم؛ وعرضه عليهما بطول أمر الأوثان بأن وصفها بالتفرق، ووصف الله تعالى بالوحدة والقهر تلطف حسن وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل وعاندته، وهكذا الوجه في محاجة الجهلة أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك أبدًا حتى يصل إلى الحق، وإن أخذ الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده؛ وقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم.
وقوله: {إلا أسماء} ذهب بعض المتكلمين إلى أنه أوقع في هذه الآية الأسماء على المسميات وعبر عنها بها إذ هي ذوات أسماء.
قال القاضي أبو محمد: والاسم الذي هو ألف وسين وميم- قد يجري في اللغة مجرى النفس والذات والعين، فإن حملت الآية على ذلك صح المعنى، وليس الاسم- على هذا- بمنزلة التسمية التي هي رجل وحجر، وإن أريد بهذه الأسماء التي في الآية أسماء الأصنام التي هي بمنزلة اللات والعزى ونحو ذلك من تسميتها آلهة، فيحتمل أن يريد: إلا ذوات أسماء، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ ويحتمل- وهو الراجح المختار إن شاء الله- أن يريد: ما تعبدون من دونه ألوهية ولا لكم تعلق بإله إلا بحسب أن سميتم أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط لا بالحقيقة، وأما الحقيقة فهي وسائر الحجارة والخشب سواء، فإنما تعلقت عبادتكم بحسب الاسم الذي وضعتم، فذلك هو معبودكم إذا حصل أمركم؛ فعبر عن هذا المعنى باللفظ المسرود في الآية، ومن هذه الآية وهم من قال- في قولنا: رجل وحجر- إن الاسم هو المسمى في كل حال، وقد بانت هذه المسألة في صدر التعليق.
ومفعول سميتم الثاني محذوف، تقديره: آلهة، هذا على أن: {الأسماء} يراد بها ذوات الأصنام، وأما على المعنى المختار- من أن عبادتهم إنما هي لمعان تعطيها الأسماء وليست موجودة في الأصنام- فقوله: {سميتموها} بمنزلة وضعتموها، فالضمير للتسميات، ووكد الضمير ليعطف عليه.
وال: {سلطان} الحجة، وقوله: {إن الحكم إلا الله} أي ليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء، أي فما بالها إذن؟ ويحتمل أن يريد الرد على حكمهم في نصبهم آلهة دون الله تعالى وليس لهم تعدي أمر الله في أن لا يعبد غيره، و: {القيم} معناه: المستقيم.
و{أكثر الناس لا يعلمون} لجهالتهم وغلبة الكفر. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا صاحبي السجن} أي يا ساكني السجن؛ وذكر الصحبة لطول مقامهما فيه، كقولك: أصحاب الجنة، وأصحاب النار.
{أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ} أي في الصغر والكبر والتوسط، أو متفرقون في العدد.
{خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} وقيل: الخطاب لهما ولأهل السّجن، وكان بين أيديهم أصنام يعبدونها من دون الله تعالى، فقال ذلك إلزامًا للحجة؛ أي آلهة شَتَّى لا تضر ولا تنفع.
{خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} الذي قهر كل شيء. نظيره: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} وقيل: أشار بالتفرق إلى أنه لو تعدّد الإله لتفرقوا في الإرادة ولعلا بعضهم على بعض، وبيّن أنها إذا تفرّقت لم تكن آلهة.
قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً} بيّن عجز الأصنام وضعفها فقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} أي من دون الله إلا ذوات أسماء لا معاني لها.
{سَمَّيْتُمُوهَا} من تلقاء أنفسكم.
وقيل: عنى بالأسماء المسميات؛ أي ما تعبدون إلا أصنامًا ليس لها من الإلهية شيء إلا الاسم؛ لأنها جمادات.
وقال: {مَا تَعْبُدونَ} وقد ابتدأ بخطاب الاثنين؛ لأنه قصد جميع من هو على مثل حالهما من الشّرك.
{إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} فحذف المفعول الثاني للدلالة؛ والمعنى: سميتموها آلهةً من عند أنفسكم.
{مَّا أَنزَلَ الله} ذلك في كتاب.
قال سعيد بن جُبير: {مِن سُلْطَانٍ} أي من حجة.
{إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} الذي هو خالق الكل.
{أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ}.
{ذلك الدين القيم}.
أي القويم: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}. اهـ.

.قال الخازن:

{يا صاحبي السجن}
يريد يا صاحبيَّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول يا سارق الليلة لأن الليلة مسروق فيها غير مسروقة ويجوز أن يريد يا ساكني السجن كقوله أصحاب النار وأصحاب الجنة: {أأرباب متفرقون} يعني أآلهة شتى من ذهب وفضة وصفر وحديد وحشب وحجارة وغير ذلك وصغير وكبير ومتوسط متباينون في الصفة وهي مع ذلك لا تضر ولا تنفع: {خير أم الله الواحد القهار} يعني أن هذه الأصنام أعظم صفة في المدح واستحقاق اسم الإلهية والعبادة أم الله الواحد القهار، قال الخطابي: الواحد هو الفرد الذي لم يزل وحده وقيل هو المنقطع عن القرين والمعدوم الشريك والنظير وليس هو كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة لأن ذلك قد يكثر بانضمام بعضها إلى بعض والواحد ليس كذلك فهو الله الواحد الذي لا مثل له ولا يشبهه شيء من غيره: القهار هو الذي قهر كل شيء وذلله فاستسلم وانقاد وذل له، والمعنى أن هذه الأصنام التي تعبدونها ذليلة مقهورة إذا أراد الإنسان كسرها وإهانتها قدر عليه والله هو الواحد في ملكه القهار لعباده الذي لا يغلبه شيء وهو الغالب لكل شيء سبحانه وتعالى ثم بين عجز الأصنام وأنها لا شيء البتة فقال: {ما تعبدون من دونه} يعني من دون الله وإنما قاله تعبدون بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين: {إلا أسماء سميتموها} يعني سميتموها آلهة وأربابًا وهي حجارة جمادات خالية عن المعنى لا حقيقة لها: {أنتم وآباؤكم} يعني من قبلكم سموها آلة: {ما أنزل الله بها من سلطان} يعني أن تسمية الأصنام آلهة لا حجة لكم بها ولا برهان ولا أمر الله بها وذلك أنهم كانوا يقولون إن الله أمرنا بهذه التسمية فرد الله عليهم بقوله: {ما أنزل الله بها من سلطان أن الحكم إلا لله} يعني أن الحكم والقضاء والأمر والنهي لله تعالى لا شريك له في ذلك: {أمر أن لا تعبدوا إلا إياه} لأنه هو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي سميتموها آلهة: {ذلك الدين القيم} يعني عبادة الله هي الدين المستقيم: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ذلك. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام، فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتتمخض فيه النصيحة.
واحتمل قوله: يا صاحبي السجن، أن يكون من باب الإضافة إلى الظرف، والمعنى: يا صاحبيّ في السجن، واحتمل أن يكون من إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل: يا ساكني السجن، كقوله: {أصحاب النار}، و{أصحاب الجنة} ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله: أأرباب، فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام.
وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك إلى أن يصل إلى الإذعان بالحق.
وقابل تفرق أربابهم بالواحد، وجاء بصفة القهار تنبيهًا على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة، وإعلامًا بعروّ أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به، وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد.
والمعنى: أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو الله؟ فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادته، ثم استطرد بعد الاستفهام إلى إخبار عن حقيقة ما يعبدون.
والخطاب بقوله: ما تعبدون، لهما ولقومهما من أهل.
ومعنى إلا أسماء: أي ألفاظًا أحدثتموها أنتم وآباؤكم فهي فارغة لا مسميات تحتها، وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة في الأعراف.
إنْ الحكم إلا لله أي: ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه.
ومعنى القيم: الثابت الذي دلت عليه البراهين.
لا يعلمون بجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يا صاحبى السجن} أي يا صاحبيَّ في السجن كما تقول: يا سارق الليلةِ ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجانِ ودارِ الأحزان التي تصفو فيها المودةُ وتخلُص النصيحةُ ليُقبِلا عليه ويَقبَلا مقالتَه وقد ضرب لهما مثلًا يتضح به الحقُّ عندهما حقَّ اتضاحٍ فقال: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ} لا ارتباطَ بينهم ولا اتفاقَ يستعبدُ كما كلٌّ منهم حسبما أراد غيرَ مراقب للآخَرين مع عدم استقلاله: {خَيْرٌ} لكما: {أَمِ الله} المعبودُ بالحق: {الواحد} المتفرد بالألوهية: {القهار} الغالبُ الذي لا يغالبه أحدٌ. وبعد ما نبههما على فساد تعددِ الأرباب بين لهما سقوطَ ألهتِهما عن درجة الاعتبار رأسًا فضلًا عن الألوهية فقال معمّمًا للخطاب لهما ولمن على دينهما: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} أي من دون الله شيئًا: {إِلاَّ أَسْمَاءً} فارغةً لا مطابقَ لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداقُ إطلاقِ الاسم عليه لا وجودَ له أصلًا فكانت عبادتُهم لتلك الأسماء فقط: {سَمَّيْتُمُوهَا} جعلتموها أسماءً وإنما لم يَذكُر المسمَّياتِ تربيةً لما يقتضيه المقامُ من إسقاطها عن مرتبة الوجودِ وإيذانًا بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمّى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود: {أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ} بمحض جهلِكم وضلالتِكم: {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا} أي بتلك التسميةِ المستتبِعة للعبادة: {مّن سلطان} من حجة تدل على صحتها: {إِنِ الحكم} في أمر العبادة المتفرعةِ على تلك التسمية: {إِلاَ لِلَّهِ} عز سلطانُه لأنه المستحقُّ لها بالذات إذ هو الواجبُ بالذات الموجدُ للكل والمالكُ لأمره: {أَمَرَ} استئنافٌ مبني على سؤال ناشئ من قوله: إن الحكم إلا لله فكأنه قيل: فماذا حكم الله في هذا الشأن؟ فقيل: أمر على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} أي بأن لا تعبُدوا: {إِلاَّ إِيَّاهُ} حسبما تقضي به قضيةُ العقل أيضًا: {ذلك} أي تخصيصُه تعالى بالعبادة: {الدين القيم} الثابتُ المستقيم الذي تعاضدت عليه البراهينُ عقلًا ونقلًا: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلك هو الدينُ القيم لجهلهم بتلك البراهينِ أو لا يعلمون شيئًا أصلًا فيعبدون أسماءً سمَّوها من تلقاء أنفسِهم معْرِضين عن البرهان العقليِّ والسلطانِ النقليِّ. اهـ.